عن عيد ميلادي “الافتراضي” (الحلقة الثانية)

حديث البدايات.

بعد التحاق والدي موظفا ببلدية مدينة “عيل طير”، لم يفارقه حلم مواصلة الارتحال الي العاصمة مقديشو، وبدء فصل جديد من حياة الأسرة هناك. وظل مجبرا على البقاء لفترة ريثما يلملم شؤون العائلة وتتحسن أحواله المادية.

ولكن كان للأقدار رأي آخر، حيث تمت ترقية الوالد بعد فترة وجيزة، وأصبح كبير محصّلي الضرائب ، ما يعني أن مرتبه زاد قليلا، إلى جانب أنه أصبح محل تقدير بين رؤسائه. وشيئا فشيئا تلاشى حلمه بنقل الأسرة إلى مقديشو ، أو على الأقل تم تأجيله إلى وقت غير معلوم.

كان على الوالد أن يُخبر أهله بوضعه الجديد، فسافر الي  بادية مدينة عَدَلي  Cadale، حيث تقطن عمّته الكبيرة  وعميدة العائلة “إسنينو” وأبناؤها ، الي جانب مجموعة من الأقرباء وأبناء العمومة المنتشرين في القرى القريبة والبعيدة. وهذا الأمر تقليد شائع هناك، بأن يكون الأهل على علم عند تغيير أحد أبناء العائلة مكان إقامته، حيث تترتب عليها أمور كثيرة.

في هذه الأثناء ، كنا نمارس حياتنا بشكل طبيعي موزعين – كل حسب دوره- بين رعي الغنم وجلب الماء ، ومراقبة الجملين اللذين سنحمل عليهما خيمة العائلة وأمتعتها في حالة اضطررنا للارتحال مرة أخرى. ولم تكن حياتنا الجديدة تختلف عن حياتنا الأولي في مرابع العشيرة في البادية. الشيء الوحيد الذي تغير هو أننا نسكن أطراف المدينة كغيرنا من الأسر التي لم تتمكن بعد من بناء مساكن ثابتة لها في المدينة.

بلغت الآن سن المدرسة، ولم أدخل المدينة بعد، الا مرات محدودة برفقة والدي. فقط أعرف المستشفى الذي كنت أتردد عليه لتلقي علاج الحصبة ، وكنت أحب أن ألعب بين جدرانه ، مع أنني كرهت الشراب المرّ الذي كان علي أن أتجرعه غصبا عني ولم أكن أعرف أنه كان دواء الحصبة.

وكأي طفل بدوي، عرفت ظلمة الليل، وضوء الفانوس الذي جاء به والدي يوم ميلادي، والذي كانت تطفئه والدتي بعد خلودنا للنوم ، وفي بعض الأحيان يكون مطفأ لفترات طويلة بسبب نفاد النفط والفتيل. ولكنني دهشت لمرأى لمبات أعمدة الكهرباء في المدينة ، وكنت أظنها فوانيس كبيرة ، أكبر بكثير من فانوسنا المنزلي ! وكنت أحلم بأن أقف يوما ما جنب هذا الفانوس الكبير وأنظر إلى ما حولي .

 ولكن لم تكن بيدي حيلة، وكانت تلك الأمنية بعيدة المنال،  فالمدينة تبعد عنا حوالي ثلاث كيلومترات ووالدتي لم تكن تسمح لي بالابتعاد عن الخيمة بعد الغروب. ولذلك كنت أتأمل هذه الفوانيس الكبيرة من بعيد إلى أن يحل وقت العشاء والنوم.

كان أخي وأختي قد سبقاني إلى المدرسة ، فيما أنا بقيت مع والدتي وأختي الصغرى في الخيمة نتدبر أمور البيت/الخيمة . ولم يتغير دوري في رعي صغار الماعز ، حتى  قرر والدي إدخالي المدرسة النظامية ، وكذلك الكتّاب ( الدكسي) في وقت واحد.

في هذه الأثناء، لاحظت اختفاء الجملين اللذين انتقلنا بهما من البادية، ولم يعودا رابضين أمام الخيمة كما اعتادا كل ليلة ، وافتقدتهما كثيرا، لأنني كنت أستأنس بهما عندما توقظني والدتي خلال الليل وتأمرني بالذهاب للتبول خارج الخيمة. عرفت فيما بعد أن والدي باع الجملين ليبدأ بجمع تكاليف بناء بيت لنا في المدينة، وهو نفس العام الذي انتقلت فيه الي الصف الثاني  من المدرسة الابتدائية .

وقبل ذلك اختفى  قطيع صغير من البقر كان معنا، بحيث ضم إلى بقر أحد الأقارب الذي ذهب بهما بعيدا إلى الريف، لكنه أعاد اثنين منهم إلينا فيما بعد ومعهما عجلان جميلان. وكانت لي حصة من حليبهما كل مساء ، فيما كان عليّ مراقبتهما في أوقات الفراغ واللعب حولهما أيضا مع أطفال الجيران.

كان في المدينة مدرسة ابتدائية/إعدادية واحدة، وكتّابان (مدرستان لتحفيظ القرآن) فقط ، إحداها لا تسمح بقبول الأطفال الذين يذهبون إلى المدارس النظامية بحجة أن الطفل يجب أن يحظ القرآن أولا، ثم بعد ذلك يذهب إلى المدرسة النظامية.  وكان والدي مصرا على إدخالي المدرسة النظامية ، ولذلك اختار كتب المعلم أحمد الذي يسمح لطلابه بالجمع بين الدراسة النظامية صباحا، والمدرسة القرآنية بعد الظهر.

وكان على أن الذهاب إلى المدرسة الابتدائية صباحا مشيا على الأقدام لثلاث كيلومترات ، ثم بعد انتهاء الدراسة أعود إلى الخيمة وأترك دفاتري هناك، ومن ثم أواصل السير الي الكتّاب ، حيث أكون هناك حتى الساعة الخامسة مساء. وظل الأمر هكذا لعامين تقريبا انتقلنا بعدها الي داخل المدينة وأصبح لنا بيت ثابت مثل باقي الأسر.

كنت محظوظا بالتعرف علي أطفال من عمري يشغل أباؤهم مناصب رفيعة في إدارة المدينة ؛ في الشرطة  ، الصحة ، والبلدية ، والحزب الحاكم، والبريد ، وغيرهم من التجار والوجهاء في المدينة . والذي جمعنا هو سماح المعلم أحمد بالجمع بين المدرسة النظامية وحفظ القرآن في كتّابه.

ولذلك كانت العطل الرسمية في الدولة هي عطلة أيضا لكتّابنا، مثله مثل المدارس النظامية ، وهو أمر لم يكن متاحا للكتاب الآخر في المدينة، لذا عرفت في وقت مبكر من حياتي عطلَ يوم المرأة وعيد العمال وعيد الثورة، ،وعيد الاستقلال، ويوم العَلَم، ويوم المعلم ( الذي هو عيد ميلادي الافتراضي ، كما ذكرت ذلك  في الحلقة الأولى من هذه المقالات)

كان المعلم أحمد الذي أسس هذا الكتاب شخصية صارمة جدا. وفي الوقت الذي التحقت بكتابه، كان عمرها أربعون عاما،  وكان يعد من أقدم وأشهر معلمي القرآن في المنطقة، وطلبته منتشرون في كل مكان، ومن بينهم تجار كبار وموظفون حكوميون وأبناؤهم أبضا ، ولذلك كان موضع تقدير كبير في المدينة حيث علّم أجيالا متعاقبة .

 يجلس المعلم أحمد في الكتاب بعد الفجر مباشرة ولا يعود إلى بيته الا بعد الغروب، وخلال النهار يحفّظ ويراجع ويستذكر ويختبر مجموعات من الطلبة الذين يأتون ثم ينصرفون. ولم يكن يعتمد علي مساعد ( كبير Kabiir) على الإطلاق. وكانت العصا الغليظة لا تفارق مجلسه ، ولذلك كان يهابه الطلبة ويقدره الكبار. كنا نستغرب كيف يتحول المعلم أحمد الي شخصية لطيفة يروي الحكايات ويتباسط مع الكبار ويضحك معهم ، في الوقت الذي كنا نحن نرتعب من نظراته ، ونحرص على حفظ الدروس القرآنية بشكل متقن حتى لا نكون موضع عصاه الغليظة وتقريعاته الكلامية التي لا نطيقها، رحمه الله.

كان حفظي متوسطا ، ولكني حزت إعجاب المعلم أحمد، عندما أتقنت القراءه وكتابة الدرس كما يمليها، وكان ذلك بعد إكمالي لجزءعمّ . وكنا نستخدم الألواح الخشبية المصقولة التي تصنع من أشجار معينة يتم جلبها من الغابات . واشترى لي والدي لوحا جديدا، كما أعطيتُ لوحا قديما يعود لأخي الذي تخرج من مدرسة المعلم أحمد قبل سنوات طويلة.

ولم يكن يسمح لنا باقتناء المصاحف الا بعدإكمال حفظ القرآن كله والنجاح في الاختبارات المتنوعة من المعلم ، والغرض من هذا أن لا يعتمد الطفل على المصحف. وكان لوالدي صندوق حديدي يخزن فيه أشياءه الخاصة ولا يفتحه أحد غيره. وكان من بين مقتنياته مصحف جميل، أقوم بسرقته أحيانا لكن يجب علي أن أعيده قبل إغلاق الصندوق. وكنت استعطف والدي أن يتركه لي لفترة قصيرة ، لكنه كان يرفض ذلك باستمرار تنفيذا لأوامر المعلم أحمد.

كان على كل طفل أن يعد القلم والدواة بيده كل يوم. والدواة عبارة عن حليب الماعز المخلوط بالفحم، او الصمغ المخلوط بالماء والفحم ، واحيانا عصارة الأعشاب والفحم. وكانت لدي مشكلة في تقويم السطور ، ولذلك كانت القاعدة أن نكتب السطر باتجاه السرّة حتى يستقيم. وحتى هذه الأيام لا أستطيع أن اكتب سطرا مستقيما في الأوراق غير المسطّرة إلا أن أكتب عليها مثل ما كنت أفعل في اللوح في الكتاب، اي باتجاه السرة، واولادي يضحكون عليّ عندما يرون ذلك .

ستربطني صداقة جيدة مع معلمي أحمد فيما بعد ، وسأصبح محط إعجابه، كما أصبحت حلاقه الخاص. وما بين المدرسة النظامية والمدرسة القرآنية والانتقال إلى المدينة والعيش في بيت ثابت فيه حمّام جرت أحداث كثيرة سأروي بعضها في الحلقة القادمة من هذه السلسلة ” عن عيد ميلادي الافتراضي” .. كل عام وأنتم بألف خير.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s